المادة    
يقول رحمه الله: [وقد تقدم الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة] يعني: الأصل الأول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: الإيمان بالرسالة وقد قلنا: إن هناك حكمة في ترتيب أركان الإيمان، ولكن الشارح لم يرتبها، فنقول: الإيمان بالله هو أول شيء، ثم الله أرسل الملائكة، والملائكة جاءت بالكتب، والكتب ألقيت إلى النبيين، وأعظم ما أنذر به الناس في هذه الكتب هو اليوم الآخر، فإذا أطاعوا الله واتبعوا هذه السلسلة في الإيمان؛ فلهم الجنة، وإن عصوا؛ فلهم النـار، وقد تكلم المصنف هنا فيما يتعلق بالإيمان بالله، والإيمان بالرسل، ثم يتكلم عن ركن آخر من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة.
  1. توكيل الله الملائكة بالسماوات والأرض وكفر من قال بتأثير الكواكب

    قال المصنف رحمه الله:
    [وأما الملائكة، فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم، فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5].. ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم.
    وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكَّل بالجبال ملائكة، ووكَّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكَّل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكَّل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته]
    اهـ.
    الشرح:
    يقول رحمه الله: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض]، أي: موكلون من قبل الله [فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5] ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4]...] كما ذكر الله صفات أخرى للملائكة في قوله: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا))[المرسلات:1]... وقوله تعالى: ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا))[النازعات:1-2]...] إلى آخر ما ورد في القرآن من آيات تذكر أفعال الملائكة وصفاتهم، وهذا كله سنأتي عليه إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
    والمدبرات والمقسمات في هذه الآيات يؤمن بها المؤمنون بالله والمؤمنون بالنبوات، فيؤمنون أن تدبير الكون وتقسيم الأمر والأرزاق فيه وما يتعلق به، وتدبير النطفة في الرحم وما يتعلق بقبض الأرواح، وخلق الجبال والسحاب... إلى آخره، يقع بواسطة الملائكة بإذن الله سبحانه وتعالى وقد سخرها الله لذلك ووكلها بهذه الأعمال.
    قال المصنف رحمه الله: [وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع] يعني: للخالق، وهي أفضل من كلمة (الصانع)، [فيقولـون: هي النجـوم] أي: المدبرات هي النجوم، وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى عن التنجيم والكهانة في فقرة خاصة، لكن لا بأس هنا أن نجمل في المسألة حتى تتضح الصورة، وخاصة ونحن نتحدث عن تدبير الكون والنجوم والتي هي خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، ولله سبحانه وتعالى في خلقها حِكَم ذكرها نصاً في كتابه العزيز: فخلقت النجوم زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من قال شيئاً غير ذلك فقد تكلف وقال بغير علم]] وأدلة هذه الحكم قوله تعالى: ((وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ))[النحل:16] وقوله: ((إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ))[الصافات:6]، وهذا دليل على أنها زينة للسماء، ودليل أنها رجوم للشياطين قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ))[الملك:5] فهذه هي الحكم من خلق النجوم، وليس لها علاقة بإنزال الأمطار، ولا إحياء الموتى، ولا تدبير الأمر، ولا تقسيم الأرزاق ولا شيء من ذلك.
  2. التنجيم سبب الانحرافات العقدية القديمة

    إن النجوم كانت سبب الانحراف والضلال عن التوحيد قديماً، فقد انحرف الناس منذ عهد الصابئين، كما انحرف قدماء المصريين -الفراعنة- إلى عبادة الهياكل والنجوم، ولهذا ناظر الخليل إبراهيم عليه السلام قومه، وكان قوم إبراهيم عليه السلام في أيام الآشوريين والبابليين، الذين كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، ويبنون لها الهياكل، ويتقربون إليها بأنواع القربات، ولهذا ناظرهم مبيناً فساد اعتقادهم في هذه الكواكب والنجوم. وكذلك كان الحال عند الزرادشتية والمجوسية في إيران والهند، والطاغية الأكبر وداعية الضلال الأعظم في الدنيا أرسطو يقرر ذلك، ومذهب أرسطو مذهب شاذ حتى عند الفلاسفة اليونان، فإنه أشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى الشرك، في حين أن سقراط وغيره يخالفونه في ذلك، فقد قال أرسطو : إن المخلوقات العلوية هي المؤثره في الحركات السفلية، أي أن النجوم هي التي تؤثر في حركات العالم والناس، ولا يوجد رب يدبر، ولا ملائكة.
    فلما قرر أرسطو هذه الأشياء جاء ممن بعده من يأخذ بها مثل بطليموس وفيثاغورس، ومعظم فلاسفة اليونان الذين يهتمون بالرياضيات والفلك، كانوا يتكلمون في التنجيم والكهانة، وتبعهم على ذلك بعض الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، فنادوا بما نادى به أرسطو، وكتبوا في ذلك الكتب المشهورة التي لا تزال منتشرة إلى اليوم ولها أتباع، وهي تقرر أن التدبير الأرضي إنما يكون بسبب النجوم، فكان كلما أراد ملك من الملوك أن يعرف فترة حكمه نظروا في النجوم وقدروا له ذلك، وإذا أراد أن يذهب إلى معركة نظروا في النجوم قبل أن يشيروا عليه بشيء، ولما أراد المعتصم فتح عمورية قال له الكهان والمنجمون: إن المشتري والمريخ مقترنان، وهذا أنحس وقت، فلو قاتلت الروم فإنك ستهزم، فلم يبال المعتصم بما قالوا وقاتل الروم، فانتصر عليهم، وكان نحساً على الروم بإذن الله، فثبت أن النجوم ليس لها دخل في ذلك، فقال في ذلك أبو تمام الشاعر قصيدته المشهورة التي مطلعها:
    السيف أصدق إنباء من الكتـب            في حده الحد بين الجد واللعب
    بيض الصفائح لا سود الصحائف في            متونهن جلاء الشك والريب
    فالتنجيم كان واقعاً مشهوراً حتى في أيام الخلفاء الراشدين، فقد نقل أن بعض المنجمين كانوا موجودين في أيام علي رضي الله تعالى عنه، فهم موجودون في جميع العصور وفي جميع البلاد إلى اليوم، بل وفي أرقى بلاد العالم -كما تسمى-: في أمريكا وأوروبا .
    فالمقصود: أنه حيثما فقد التوحيد وجد الشرك بجميع أشكاله وأنواعه وصوره، ولا نستغرب منها أي شيء، فانتشر التنجيم والكهانة وآمن به الفلاسفة الذين يسمون (الإسلاميين) نسبة إلى بلاد (الإسلام) التي عاشوا فيها وهي نسبة جغرافية فقط، وممن آمن به ابن سينا والكندي، فقال بالتنجيم والكهانة أخبث من على وجه البسيطة وهم الباطنية، وخاصة إخوان الصفا !
    وقد أثبتوا في كتبهم ورسائلهم أشياء عجيبة فيما يخص الإيمان بالمشتري والمريخ وتأثيراتها وأحوالها فكيف تصدق هذه العقول إمكانية عزو تدبير هذا العالم إلى النجوم والكواكب؟ وأعجب من ذلك أن الإمام الفخر الرازي -عفا الله تعالى عنه- ألف كتاباً سماه: السر المكتوم في مخاطبة النجوم، وكان هذا قبل أن يهتدي، وهذا الكتاب موجود اليوم، وهناك نسخة مصورة منه في مكتبة جامعة الملك سعود بـالرياض، وقد ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في عدة مواضع من الفتاوى في بيان فساد العقائد التي بنى عليها الأشعرية مذهبهم؛ لأن الإمام الرازي هو إمام الأشعرية المتأخر، ويقول من جملة ذلك: إن الرازي ألف كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم على نفس منهج المشركين -والعياذ بالله- الذين يتقربون إلى النجوم ويعبدونها.
    ويزعم الفخر الرازي في كتابه هذا أن النجوم هي التي تدبر أمور الخلق، فيقول في مواضع من كتابه: "إذا كانت السنة تبدأ يوم الأحد فإن هذا دليل على ظفر الملك والولاة، واتصال الأسباب، ويكون النيل متوسطاً في طلوعه ويبقى على وجه الأرض، ويخرج زرعاً جيداً، ويكثر القمح ..." إلى أن يقول: "ويكثر ثمر النخل، ويكون الزرع مباركاً، والملك منصوراً مؤيداً ..." إلى آخره.
    قال: "وإن كان أولها يوم الإثنين فإن القمر يملكها، -نعوذ بالله من الضلال والشرك- فيدل على صلاح الولاة، ونزول الغيث والرحمة، وحسن زيادة النيل، والزرع ونمو القمح.....".
    قال: "وإن كان أول السنة الثلاثاء، فالمريخ يملكها -أي: الذي يتصرف في تلك السنة هو المريخ- فهذا يدل على ظفر الملك بجميع أعداءه، ونفاذ أمره في سره وجهره، وتكثر الأقاويل، ويمتد النيل، وتكون الأمراض في غالب الجهات ..." إلى آخره، عياذاً بالله.
    قال: "وإن كان أولها يوم الأربعاء، كان عطارد يملكها؛ فهذا يدل على العدل للملوك والقضاة، ويكون النيل فيها متوسطاً، وتظهر البدائع والغرائب في الصناعات والآلات، ويتحابب الناس، ويموت كثير من الكبار والكهول ..." إلى آخره.
    قال: "وإن كان أولها يوم الخميس فالمشتري يملكها، فهذا يدل على موت الأتقياء، ويكون النيل مباركاً، وتغلى الماشية..." إلى آخر هذا الكلام.
    قال: "وإن كان أولها الجمعة الزهرة تملكها، فهذا يدل على انشراح الصدور، وتودد الناس، وتأييد الملوك، وتوسط النيل، وربح التجار، وطغيان أهل الملاهي من النساء والرجال، ..." إلى آخره.
    قال: "وإن كان أولها يوم السبت فزحل يملكها، فهذا يدل على تولية العبيد للروم، وكثرة الوباء والشئوم، وفناء المشايخ والصالحين، ...." إلى آخر هذا الكلام وما فيه من كفر وشرك.
    وهذا جملة اعتقادهم فيمن يدبر الكون ومن يقسم الأمر، وهو مخالف لصحيح كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.